محمود أسعد
كانت ليلة هنيئة مليئة بالبهجة والسرور، ليلة توارى فيها النوم عن جفني، طفل في الثالثة من العمر بفعل خياله الخصب المرح الذي التمعت فيه براءة الطفولة فرحا بنبأ ساقه إليه والده السروجي، معلنا من خلاله بأنه سيصطحبه معه للعمل في اليوم التالي، أية سعادة تلك التي قد حلت على قلب الطفل لويس لمجرد علمه بالذهاب للعمل مع والده!
يالها من سعادة بالغة ربما لا يضاهيها أي شيء آخر في ذلك الوقت بالنسبة لطفل في هذه السن المبكرة، فبالرغم من أن الخبر قد يبدو للكثيرين بسيطاً ليستحق كل هذه البهجة، إذ إن والده لم يعده باصطحابه معه لأفخم المطاعم أو المسارح أوحتى للسيرك، فقط وعده بأنه سيأخذه معه ليلهو ويرتع في مكان عمله المليء بالتوتر والمشقة والخوف، حاله كحال معظم محال العمل في تلك الآونة، ولكنها براءة الأطفال التي ترضى بالقليل لتحيل المشقة إلى راحة والتوتر إلى سرور.
ولم تلبث لحظات فرحه طويلاً حتى زاره مارد النوم المهيب ليطرد برقة أرق سعادته الحميد، فمهما كان فالأطفال لا يقوون على السهر كما نفعل نحن الكبار، فضميرهم مستريح، وعقولهم صافية، وقلوبهم لم تمتلئ بعد بالغل والغدر والخيانة.
مضت السويعات سريعا، واستيقظ الطفل باكراً على غير عادة الأطفال، متحمسا مليئا بنشاط فارس مغوار قُهرت حصون الأعادي على يديه، استيقظ الطفل لويس ولسان حاله: “جاءت اللحظة المنتظرة، لحظةٌ يتبدل فيها كل شيء، تلك إذن لحظات المرح المتصل، حين يهزم الملل ويستحيل إلى فرح وبهجة وسرور، تلك اللحظة التي انتظرتها طويلا منذ آخر مرة إصطحبني فيها أبي معه، حين حملني على كتفيه ونحن عائدون إلى المنزل بينما كنا نسير بين حقول القمح الذهبي التي إلتمعت فيها أنوار الغسق لتزيدها سحرا وجمالا، حينها وعدني بأنها لن تكون المرة الأخيرة.”
حقا فقد كانت حياة لويس سعيدة هانئة، حياة طفل بريء يعيش في عالمه الخاص الذي لم يتلوث بعد بالهموم والأحزان والكمد، حياة مليئة بنور الأمل وضياء البراءة، ولكنها ما لبثت أن استحالت إلى ظلام دامس بئيس مقفر توقف فيه ترس الأحلام الوردية ليحل عوضا عنها الظلام والكوابيس.
يوم الفاجعة الكبرى.. حين أطفأ المثقاب أنوار الكون
ففي ذلك اليوم المنتظر أخذ لويس في اللعب كما كان يسعى ويخطط، فهذه قطة يركض خلفها فجأة فيفزعها فتقفز إلى النافذة هربا منه فتعلو ضحكاته، وهذا جرو فزِع حديث الولادة قد ضل عن أمه وهو يتحسس خطاه الأولى، فيأخذه بين حاضنيه ليطمئنه، وليطعمه وليُدللّهُ وليرتب له شعره المتناثر بين أذنيه، كل ذلك ووالده مشغول عنه في صناعة السروج وصيانتها، لا يشغله في ذلك سوى تحصيل المال منها ليوفر له الحياة الرغيدة التي لطالما أرادها له، ويمر الوقت بعد ذلك على هذا الحال، فيسشعر لويس ببعض الملل وقد تسلل إلى نفسه التي حدثته بعمل أشياء جديدة أكثر إثارة، حينها التمعت عيناه بذلك المثقاب ذي الرأس المدببة الملقى على المنضدة أمامه، الذي تهبط عليه خيوط أشعة الشمس الذهبية لتعكس أشكالاً أرجوانية خلاّبة على جدار إسطبلهم المقفر، فيقبل لويس على المثقاب كالمجذوب الذي سحرته جنية متخفية في ثوب عروس بحر فاتنة تأسر الأفئدة، أقبل الفتى وكأنما يقول في نفسه: “انتظر! يالهذا المثقاب رائع المنظر، لماذا لا أذهب لألعب به ولأستمتع بوهجه الخافت الساحر، لماذا لا أجري به قليلاً خلال تلك الطرقات المتعرجة الممتدة خلال تلك السروج المتناثرة على الأرض! هكذا حدّث لويس نفسه الطامعة في متعة زائدة لربما لا يلقاها هناك في منزله .
ومن هنا أخذ لويس في الجري بالمثقاب هنا وهناك، فتارة يقفز به من فوق أحد السروج المتناثرة في الردهة، وتارة يزحف به من أسفل المنضدة، وتارة يجري به أمام والده المشغول فيفزعه فيطلق السباب، يجري والضحكات لا تفارق ثغره الصغير الجميل، ثغر الطفولة الذي لم يلوثه بعد الخوض في الأعراض أو الضحكات الكاذبة المصطنعة، كل ذلك وهو لا يبالي، لا يبالي باللحظة المنتظرة التي سيفقد فيها واحدة من أجل نعم الله عليه، لحظة يتوقف عندها الزمن قليلاً ثم يستمر ليسير كالطوربيد المندفع من فوهة مدفع رافضا العودة مرة أخرى، لحظة تتبدد الأحلام لتحل مكانها الأوهام، لحظة وقوع الكارثة الكبرى والخطأ الجسيم الذي لن يغتفر، تلك كانت لحظة أن زلت قدما لويس برايل ليسقط على الأرض وهو يحمل المثقابين المدببين اللذين طعنا عينيه الصغيرتين كما طعن بروتس عمه يوليوس قيصر لينحِّيه عن ملكه، وأطلق قيصر جملته الأشهر التي ظلت عالقة بصفحات التاريخ: “حتى أنت يا بروتس؟!”
لقد خبا النور من مقلتي الطفل برايل الذي عجز الأطباء عن مساعدته، ليفقد في السنتين التاليتين كل شيء له علاقة بالبصر، ولتحل عليه الفاجعة التي جزعت على إثرها القرية بأكملها.
حاجز طريقة الكتابة الذي عطّل نهمه للعلم
وإن كنت من الذين يعتقدون بأن هذه هي نهاية القصة فأنت مخطئ لا محالة، فبالرغم من قسوة الحادث الأليم إلا أن لويس لم يستسلم لإعاقته كما ظن الجميع، فإن كان النور قد خبا من عينيه فإنه لم يخبُ بالتأكيد من قلبه الصافي الصغير، القلب الذي توهج بنور الفضول والمعرفة، ليمضي برايل في الحياة وهو عازم على ألا يترك بابا من أبواب النجاح إلا وقد طرقه..
ولكن ولسوء الحظ فلقد اصطدم فضوله وحبه للمعرفة بحاجز طريقة الكتابة التي بدونها لا يمكن لشخص مكفوف مثله أن يطلق لنفسه العنان لينهم من العلوم والمعارف.. فعندما بلغ لويس سن العاشرة كان قد أنهى تعليمه في مدينته المعروفة بكوبفراي الواقعة بشرق باريس عاصمة الجمهورية الفرنسية، عندها حصل برايل على منحة تعليمية إلى معهد للمكفوفين اليافعين هناك، وكما كان متوقعا فلم تكن الأوضاع في المعهد على ما يرام، حيث لم يحصل الطلاب في العادة على أكثر من الخبز والماء للطعام، وأحيانا كانت تساء معاملتهم كنوع من العقاب، ولكن هذا كله لم يمنع برايل من تحصيل التفوق خاصة في مادة الموسيقى..
أما بالنسبة للنظام الذي كان متبعا حينها لكي يتلقى الطلاب موادهم الدراسية، فلقد كان في هذا المعهد آلة تكتب على الورق من جهة فتبرز من الجهة الأخرى ليلمسها الكفيف بإصبعه لقراءتها، ولكن هذه الطريقة قد اتسمت بالعديد من السلبيات، التي كان على رأسها أنها لم تكن نظاما عمليا لنشر الكتب، حيث لم يحتوِ المعهد سوى على أربعة عشر كتابا فقط قد نُشر بهذه الطريقة، ومن الجدير أن نذكر أن برايل قد قرأها كلها في دليل واضح منه على شدة ولعه بتحصيل العلم والمعرفة..
المعجزة التي أنقذت الملايين
ولم يمضِ سوى عامين على التحاق برايل بهذا المعهد إلا وقد حدثت المعجزة التي لم تغير حياته فقط بل غيّرت كذلك حياة كل مكفوف على وجه هذه الأرض منذ ذلك الحين إلى يوم الناس هذا، ألا هي تطوير برايل لكتابة جديدة يستطيع المكفوف من خلالها القيام بالقراءة والكتابة ونشر الكتب وترجمتها دون أية صعوبة، وقد حدث ذلك في العام 1821 عندما قام شارل باربيار الضابط بالجيش الفرنسي بزيارة المعهد، وهناك التقى باربيار ببرايل الذي أبلغه بأنه ابتكر طريقة جديدة مشفرة للكتابة يستطيع الجنود من خلالها التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية بدون الحاجة للكلام، وهي أن تبرز على الورق السميك أشكالا من النقاط أقصاها اثنتا عشرة نقطة لكلٍ منها دلالة كلامية..
في البداية واجه برايل صعوبة في فهم تلك الكتابة فقام بتخفيض العدد الأقصى للنقاط من 12 إلى 6، وبدأ في نفس ذلك العام بالعمل على اختراع طريقة كتابة جديدة، ومن المدهش أنه انتهى من هذا كله عام 1824 أي بعدها بثلاث سنوات فقط، كل ذلك وهو لم يتجاوز بعد الـ15 عاما من عمره ..!
أي إرادة تلك التي امتلكها هذا الطفل الصغير ليتمكن بمفرده، وفي غضون هذه المدة الوجيزة، من إتمام مشروع ضخم كهذا..! مشروع لربما احتاج إتمامه تضافر العديد من المؤسسات الضخمة التي تدعمها دول عظمى ذات ميزانيات مفتوحة على مدار العديد والعديد من السنوات ..! لابد أن هذا الحادث الذي أصاب برايل لم يكن محض مصادفة، وإنما كان من تقدير إله عظيم اقتضت حكمته بأن توضع هذه الإعاقة لدى هذا الطفل الذكي الطموح تحديدا ليستغل مواهبه التي احتاجت إلى حوافز التغيير التي امتلكها نتيجة لإعاقته التي لولاها لظل أصحاب الإعاقات البصرية يقبعون في مستنقعات الجهل والذل والعوز..
جني الثمار
مضت سنوات اليأس سريعا، لتحل عوضا عنها سنوات البهجة من جديد، تلك السنوات التي أحال الله فيها الحلم إلى حقيقة والضعف إلى قوة، لقد جاء العام 1828 حاملاً معه الحدث الأعظم لربما في حياة برايل كلها، وهو الحدث الذي تجلت فيه كل مجهوداته التي بذلها خلال كل تلك الأعوام الماضية، ولم لا؟ فلقد شهد هذا العام نشر أول كتاب بطريقة برايل الجديدة لتكتب بذلك أول شهادة نجاح لتلك الطريقة التي خُلِّدت إلى الآن، ثم يأتي العام 1854 ليشهد اعتماد نظام كتابته الجديدة رسميا في فرنسا كلها.. ليتسطر بذلك المجد لقصة الطفل المكافح العبقري لويس برايل الذي فرض نفسه بقوة على صفحات التاريخ الإنساني الممتد..
الرحيل المؤلم
وتمر الأيام والسنون، ليقبل علينا العام 1852 وقد حمل لنا خبر فاجعة موت لويس برايل وهو لم يتجاوز بعد سن 43 .. مات متأثرا بمرض السل الذي فتك برئتيه الذي كان يعانى منه منذ الصغر جنبا إلى جنب مع العمى، ليسدل بذلك الستار عن قصة من أعظم قصص الكفاح التي ألهمت ملايين القلوب على مدار التاريخ.. قصة طفل أطلق لنفسه العنان ليحلم فكافأه الله بأن حقق له حلمه الذي جعله يبصر من جديد.. لقد أثبت لنا برايل أن لا مكان لليأس، فمهما كانت العقبات التي تواجهك فأنت تستطيع التغلب عليها لتسطر الأمجاد ولتصنع المستحيل.. كانت هذه هي قصة لويس برايل.. قصة المكفوف الذي أضاء إنجازه حياة كل مكفوف في هذا العالم..