محمود أسعد
نرى الرجال والنساء وحتى الأطفال فى هذه الأيام، من يمكثون على النواصي وفى منتصف الطرقات والميادين، وهم يستجدون متعللين في ذلك بالوهن والضعف والإعاقة، وهم أرباب صحة وعافية ربما لا نمتلكها .
وعلى كلٍ تجد في زحام هؤلاء المتسولين من هو مريض أو معاق بالفعل، ولكن هل تعدُّ هذه الإعاقة سببًا كافياً لبسط يد طامعة في صدقة ليست من حقها، صدقة تورث لطالبها الذل والمهانة جيلًا وراء جيل .
الموضوع لا يتعلق بالإعاقة فقط بشكل أساسي، فالإعاقة، وإن كانت مؤلمة، لم ولن تكون مبرراً أبدا للتسول، وإلا لما رأينا تلك النماذج المبشرة المبهرة التي لم تتحد الإعاقة فحسب، بل تحدت كذلك كل نظرة من نظرات مجتمع لم يتورع قط عن التنمر عليهم بحجة المزاح والضحك.
هناك نماذج مشرِّفة ملأت الدنيا أملا وبهجة ويقينا بأن الأفضل قادم لا محالة، يقينًا بأن النجاح والتميز ليس حكرا على شخص دون آخر، يقينًا بأن رحمة الله قريب من المحسنين.
ومن هذه النماذج المبهرة (الأسطى) إبراهيم، ذلك الرجل الذي تحدى كل شيء طلبا للعيش الحلال وحفظا لماء وجهه الذي يأبى أن يريقه مهما ساءت به الظروف أو انحدرت .
كان الأسطى إبراهيم عثمان، أحد هؤلاء الأبطال الذين رفضوا الاستسلام للواقع الأليم، لسان حاله في ذلك أن الله لا يصلح عمل المفسدين، لقد دفعته عفته وحسن تربيته إلى اتخاذ القرار الأصعب، ألا وهو تحدي إعاقته ومن قبلها مجتمعه، والحصول على عمل شريف يكسب من خلاله قوت يومه ويوم أبنائه “لازم الواحد يشتغل ويتعب، فمهما كان التعب والشقى فهو أحسن من التسول. ”
ويعاني عم إبراهيم الذي يعمل في صيانة “مواتير الكهرباء” من الشلل النصفي، تلك الإعاقة التي تمنعه من تحريك كلتا قدميه .. ولذلك عندما قرر العمل، اختار مهنة تتناسب مع طبيعة إعاقته، مهنة لا يضطر فيها لتحريك قدميه أو استعمالهما من الأساس، كل شيء مبني فقط على اليدين، يد تلف الأسلاك، والأخرى تثبت جسم المحرك: “بشتغل فى لف وتصليح مواتير الكهرباء، وهى شغلانة مناسبة ليا علشان مش بضطر أقف أو أستعمل رجلي فيها “.
ويعمل عم إبراهيم ذو الاثنين والأربعين عاما، في هذه المهنة بشكل شبه يومي رفقة إخوته الذين يتمتعون بصحة جيدة منذ أكثر من عقدين من الزمن: “ورثت الشغلانة دى أنا وإخوتي عن أبويا وأخويا الكبير”، وبالرغم من كثرة عدد إخوته وارتباطهم به وحبهم له، إلا أنه لم يفكر يوما في الجلوس فى المنزل منتظرا المعونة منهم أو من أي أحد، مثله في ذلك كمثل النسر الطاعن في السن الذي يفضل بأن يلقي بنفسه من علٍ على أن يعيش عالة على أبنائه من سائر النسور “الشغل مش عيب والإيد البطالة نجسة” .
أضف إلى ذلك كله المشاق التى يتجشمها أثناء تأديته عمله، فكونه لا يستطيع الوقوف على قدميه يحتم عليه الجلوس على الأرض الصلبة لساعات وساعات، فيقبل عليه الشتاء ببرده القارس ورياحه العاصفة، ويحل عليه الصيف مصطحبا معه شمسه المستعرة على جبينه، كل ذلك وهو ماكث بمكانه ثابت لا يتحرك، يجلس في العراء شامخا رافعًا الرأس، ولم لا؟ فهي رأس عامل شريف لم يعرف ذل التسول قط، وبالرغم من هذا كله فهو يرى أنه أفضل حالاً من غيره “في ناس حالتهم أصعب مني كتير وبيشتغلوا وبيتعبوا عشان لقمة العيش وعشان ميمدوش إيدهم لحد. ”
ويأمل عم إبراهيم أن تنظر إليه الدولة نظرة حنان ورفق هو وكل رفاقه من متحدي الإعاقة، فالعمر يمضي سريعا، والصحة اليوم ليست كسابقتها بالأمس، فمع وقوع جائحة كورونا التي هبت كالعاصفة المدمرة على أصحاب المهن الحرة، أصبح من الصعب تحصيل الرزق كما كان قبيل الجائحة، “نفسي الدولة تبص علينا شوية لإن الكورونا مبهدلانا والصحة معدتش زي زمان “.