محمود أسعد – محمد جمال – محمود عبد الرحيم

مليئة هي الحياة بالحروب والمعارك التي منها ما هو مصيري وحتمي الخوض، والمعارك الأخرى التي لابد أن يترفع المرء عنها بمقتضى التغافل والحكمة والتشريف للذات.

ولكن ومها بلغت بك حكمتك ومهما بلغ تغافلك، فلابد أن يستفزك بعض السفهاء إلى ميدان الحرب المستعرة بغية استنزافك والانتقاص منك ومن مقامك، فتجد نفسك تقاتل وتقاتل من أجل أمور بديهية لا ينبغي أن يستغرق النقاش فيها أكثر من دقائق تعدُّ على إصبع اليد الواحدة، ولكنه جهل الجهلاء ..

لم تكن هبة هجرس تلك المرأة التي قد تفوِّت على نفسها فرصة خوض تلك المعارك المصيرية خاصة إن كانت تمس أصحاب الإعاقات المختلقة، فمسيرتها الحافلة تشهد على كفاحها الدائم والمستمر للمطالبة بحقوق هؤلاء الذين اختارهم الله ليكونوا مؤشرا على مدى تراحم أبناء المجتمع الواحد وتكاتفهم لإعلاء القيم الإنسانية النبيلة التي جاءت بها كل الكتب السماوية.

فعندما يمتزج العلم مع النضال والقوة، وعندما يكرس المرء حياته لأجل إعلاء وتحقيق هدف واحد سامٍ، فلابد أن يخضع المستحيل  لتحقيق هذا الهدف مهما احتاج ذلك من وقت أو جهد..

إن تلك السيدة حرصنا على أن نلتقيها في هذا الحوار، لما لها من شأن عظيم فى مجال الإعاقة وباع طويل كإحدى الناشطات فى مجالها خارج البلاد وداخلها، لم تتمرد فقط على طبيعة المرأة الضعيفة بحكم فطرتها، وإعاقتها التي ألمّت بها منذ الصغر.. بل تمردت على بغي مؤسسات ظلت لعقود لا تأبه حتى بالحد الأدنى من حقوق هؤلاء المعاقين، نعم إنها المرأة الحديدية والرقم الصعب..إنها الدكتورة هبة هجرس..

** في البداية دعينا نتحدث عن طفولتك ، ما هي أكبر المشكلات التي واجهتكِ خلال تلك المرحلة الحساسة من عمرك؟

* في البداية أود الترحيب بكم جميعا، كما أود التعبير عن امتناني وشكري وسعادتي بكم لأنني توقعت أن من سيجرون الحوار معي هم أشخاص من ذوي الإعاقة، وليس أشخاصاً غيرهم، وهذا إن دل فإنما يدل على توافر كلٍ من الوعي والنضج الكافيين في المجال الصحفي والإعلامي، كما يدل على أن قضايا المعاقين أصبحت لا تشغل اهتمامهم فقط، بل وتشغل اهتمام الأشخاص من غير ذوى الإعاقة من الشباب والكبار، وعلى نجاحنا، نحن المتصدرين لقضايا الإعاقة في المجتمع، فى لفت أنظار الناس لقضاياهم والصعوبات التي يواجهونها..

أما فيما يتعلق بسؤالكم حول المشاكل التي تعرضت لها خلال طفولتي، فأنا أعتقد أن أصعب نقطة في تحول أي شخص من ذوي الإعاقة، وخاصة هؤلاء الذين لا تكون إعاقتهم موجودة منذ المولد، تتمثل في كونهم قد عاشوا حياتين، حياة قبل الإعاقة وأخرى بعدها، فبالنسبة لي فقد عشت حياة طبيعية للغاية حتى سن العاشرة، وبعد هذه السن حدث أن أصبت بالإعاقة التي حوّلت حياتي تماما وبدأت بالتدهور بشكل كبير.

فبالنسبة لأي شخص فإن التحول من شخص سليم صحيح إلى شخص معاق سوف يمثل صدمة بالغة له، وهو ما يتطلب أن يتلقى هذا الشخص الذي أصيب بالإعاقة معاملة خاصة حتى يستطيع أن يعود إلى توازنه الطبيعي، وهذا ما حدث معي، فبالرغم من أن إعاقتي مثّلت صدمة كبيرة لي ولأهلي، إلا أنهم لم يفقدوا توازنهم ومضوا نحو معاملتي معاملة خاصة، حيث قاموا بدفعي لأن أقوم بعمل تأهيل نفسي مع أناس متخصصين، وذلك بالرغم من عدم شيوع مثل هذه الأمور في تلك الآونة، إلا أن رحمة الله بي ومن ثم ذكاؤهم الفطري جعلهم يدركون هذا في هذا الوقت المبكر للغاية، وفي واقع الأمر كان ذلك أهم شيء حدث لي في حياتي، حيث بدأت في استعادة توازني وتقبُّل إعاقتي وأن أبحث عن الطرق المختلفة التي أستطيع بها أن أمارس حياتي في ظل هذه الإعاقة.

لذلك فأنا أرى أن بالرعاية النفسية السليمة سوف يستطيع الإنسان المعاق أو أي إنسان لديه أي مشكلة أن يستعيد توازنه وأن يستكمل حياته بشكل طبيعي وبكرامة وسعادة..

**  كيف استطاعت هبة هجرس أن تبدأ حياتها العملية في مجال تحدي الإعاقة؟

* في الحقيقة لم يكن مجال الإعاقة هو مجال عملي الأساسي، فأنا في الأصل كنت سيدة أعمال ناجحة حيث عملت كمصممة أزياء في بداية حياتي المهنية وهو ما أهلني لكي أمتلك عددا من المحال التجارية، وفي الحقيقة لقد كنت ناجحة للغاية في مجال الأزياء التراثية، فأنا أعتقد أن أعمالي معروفة بشكل لافت على كلا المستويين المصري والعربي.

ولكن بداية دخولي للعمل بمجال تحدي الإعاقة كان عندما طلب مني أحد الأشخاص المعاقين استعراض قصة نجاحي في أحد البرامج التلفزيونية المعروفة حينها، تم توالت جلساتي مع هذا الشخص فيما بعد، وعندما أحس أنني أمتلك الحماس تجاه قضايا المعاقين وتجاه المطالبة بحقوقهم، طلب مني أن نرفع مطالبنا للمستويات العليا في الدولة وننادي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ومنها بدأت في هذا المجال جنبا إلى جنب مع مجال الأزياء الذي تميزت فيه كما ذكرت آنفاً، ولكن يجدر بي أن ألفت الإنتباه إلى أنني في تلك الآونة بالرغم من تحمسي جدا للقضية إلا أنني لم أكن أعلم عنها شيئا، وهنا يجب التفرقة ما بين الأشخاص ذوي الإعاقات فقط والأشخاص المتخصصين في فنيات الإعاقة، فليس معنى أنني بُليت بالإعاقة أنني أصبحت أفهم مشاكل الأشخاص ذوي الإعاقة.

لذلك عندما انخرطت في هذا المجال، اكتشفت أنني أمضيت أكثر من ثلاثين سنة من عمري وأنا لا أفهم شيئا عن قضايا أصحاب الإعاقة، لذلك قررت البدء في دراسة الإعاقات المختلفة والأشخاص المعاقين وغيرها من مجالات الإعاقة، وقد تمثل دافعي في ذلك أنني ارتأيت أنه من الخطير للغاية أن أتحدث باسم هذه الفئة وأنا لا أعلم عنهم شيئا، فقد يؤدي حماسي الممتزج بالجهل إلى اتخاذ قرارات ليست في صالح فئات محددة من ذوي الإعاقة، وقد استغرقت لإتمام رحلتي الدراسية التي تمثلت في الحصول على كلٍ من الماجيستير والدكتوراه 12عاماً بالتمام والكمال .

إن المتابع لقضايا أصحاب الإعاقات في مصر في الآونة الأخيرة سوف يلاحظ تحسناً كبيراً في أوضاعهم وحصولهم على عدد كبير من حقوقهم التي كانت مهدرة في الفترات السابقة.

**  ما هي أهم التشريعات التي صدرت في دعم ذوي الإعاقة خلال تواجدكم في مجلس النواب؟

* لقد تواجدت في مجلس النواب لمدة خمس سنوات منذ العام 2015 حتى العام 2020، وكانت هذه الفترة بمثابة فترة ذهبية بالنسبة للمجلس وذلك بفضل وجود رئيس قوي للبلاد استطاع أن يوفر لنا مناخاً متميزاً للعمل لم نكن نحلم أن يتوفر في يوم من الأيام، ثم بعد ذلك قررت أن أتوقف عن ممارسة الحياة النيابية مكتفية بهذه المدة، وكان ذلك بسبب المجهود الضخم الذي بذلته خلال تلك المدة، التي فيها قد سعيت سعياً كبيراً لكي أوفر لأصحاب الإعاقات حقوقهم التي كانت مهدرة خلال كل تلك السنوات الطويلة الماضية، وهنا لابد من التأكيد على أنني لم أكن الوحيدة صاحبة الفضل في خدمة قضايا المعاقين، حيث كان هناك العديد من الزملاء سواء من المجالس والتخصصات المختلفة الذين شاركوني في هذه المسيرة الطويلة والممتدة.

أما بالنسبة لسؤالك، فبمقدوري القول إنني كنت بمفردي وراء تغيير وإضافة وتعديل حوالي 85% من التشريعات لصالح الأشخاص ذوي الإعاقة، وكان من ضمن هذه التشريعات التي ساهمت فيها سواء بالتغيير أو بالتعديل أو الإضافة هو القانون رقم 10 لسنة 2018 والمعروف باسم قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، الذي تقدمت به منذ بداية تواجدي في المجلس، حيث ظل يناقش لمدة سنتين مع كل الوزارات تقريباً، حتى تم إقراره في العام 2018، والحقيقة أننا استطعنا أن ننال كل مطالبنا التي جاءت في هذا القانون بدعم قوي من القيادة السياسية، وذلك لأن رئيس الجمهورية كان قد وفر لنا بالغ الدعم والمساندة فيما يخص التحقيق المشروع لحقوقنا، وبفضل كل ذلك استطعنا أن نخرج بهذا القانون التاريخي المطابق للاتفاقية الدولية الذي يعدُّ نموذجاً لقوانين الإعاقة من حيث التوازن وحفظ حقوق أصحاب الإعاقات سواء في العالم العربي أو في دول العالم بشكل عام.

وكمثال آخر على ذلك قانون الخدمة المدنية الذي عدّلنا فيه الكثير لصالح الأشخاص ذوي الإعاقة ولصالح فئة مهمة جدا من فئات المجتمع ألا وهي أمهات الأطفال المعاقين، وذلك لأن الشخص الأول المسئول عن الطفل المعاق هي أمه، التي تتغير حياتها بالكامل من أجل أن تراعي حياة هذا الطفل بالطريقة التي تتناسب مع احتياجاته، وقد وفر قانون الخدمة المدنية لهؤلاء الأمهات ساعات عمل أقل وذلك لأنهن يبذلن جهدا ووقتا أطول مع أبنائهن المعاقين، إضافة إلى أشياء أخرى قد وفرها لهن القانون تتمثل في خصومات في الضرائب نظرا لارتفاع تكاليف معيشتهن نتيجة لمسؤليتهن عن أطفالهن المعاقين، وما تم ذكره الآن ما هو إلا عيِّنة بسيطة من القوانين التي شاركت فيها تلبيتها لمصالح ذوي الإعاقة من أبناء مصر.

** لقد سافرتِ إلى بلاد متعددة حول العالم وشاهدتِ كيف يتم التعامل في هذه البلاد مع ذوي الإعاقة، حدثينا عن الفارق في معاملة المعاقين بين هنا وهناك، وهل يحدث تنمر على المعاقين في الخارج كما يحدث عندنا؟

* لا بد من التأكيد على أن التنمر موجود في العالم كله، وبشكل عام فإن الأشخاص من ذوي الإعاقة يتعرضون للتنمر أكثر بأربعة أضعاف عن الأشخاص العاديين في العالم كله، لذلك فإن التنمر ظاهرة عالمية قلما ينجو منها أحد، وأنا شخصيا تعرضت للتنمر أثناء فترة دراستي في إنجلترا.

وبالحديث عن التنمر، فأود أن أشير إلى أنني شاركت خلال السنتين الماضيتين في عمل بحث بعنوان العنف ضد المرأة ذات الإعاقة، لقياس مدى تعرضها لأنواع التنمر والاستغلال بأنواعه المختلفة، ولله الحمد فلقد كانت نتائج البحث رائعة للغاية، وذلك نتيجة لتكاتف كلٍ من المجلس القومي للمرأة والجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ووزارة التضامن الاجتماعي، لإتمام هذا البحث الذي شمل محافظات مصر المختلفة باستثناء المحافظات الحدودية، ولقد ساعدنا هذا البحث كثيراً في تحديد المناطق التي تنتشر بها حالات العنف أكثر من غيرها، وبناءً عليه سوف نقوم بتغيير بعض القوانين والتشريعات اللازمة للحد من هذا العنف المنتشر في العديد من الأماكن ضد المرأة.

** كيف درستِ ثقافات الشعوب وأسرار جمالها وبالتالي نجحتِ في وصول تصميمات أزياءك لقلوب الناس؟

* إن السبب الرئيسي الذي دفعني لأتجه إلى مجال الأزياء التراثية هو أهلي الذين كنت محظوظة بهم للغاية لما تمثل لديهم من وعي بالغ استطاعوا من خلاله السيطرة على شخصية بمواصفات شخصيتي القوية النشيطة، ولابد لي هنا من التأكيد على أن وعي الأهل هو أهم شيء في حياة الشخص صاحب الإعاقة، وكان نتيجة لهذا الوعي أن قرر أهلى أن يفتتحوا لي متجرا لتصميم الأزياء في مكان ما أسفل العمارة التي كنا نسكن فيها لكي أقضي وقتي فيه حتى لا أشعر بالوحدة، ولكن هذا المتجر تحول تماما من مجرد مكان لقضاء الوقت، إلى متجر من أشهر متاجر صناعة الأزياء التراثية على أساس فني سليم في مصر والدول العربية قاطبة.

في البداية تولت والدتي الجانب الفني لصناعة الأزياء لما امتلكته من ذوق فني عالٍ بحكم أنها تربت في مدارس الراهبات، وتوليت أنا الجانب التجاري بحكم دراستي لإدارة الأعمال، ولكني قررت فيما بعد أن أتجه لدراسة الأزياء التراثية والتراث بشكل عام دراسة علمية، وذلك لأن روح هذا المكان أصبحت روح تصميم الأزياء وليس مجرد متجر تجاري، وقد ساعدني تميزي في اللغات فى الحصول على مراجع متنوعة للأزياء التراثية التي لم يكن في ذلك الحين يتوفر لها أماكن للدراسة، فكان السبيل الوحيد لدراستها هو الحصول على المراجع اللازمة لذلك.

 

** نريد أن نتعرف من خلالك عن الكيفية التي من خلالها تمكنتِ من جمع كل هذه التحف التى تزين منزلك؟

* إن اقتنائي لكل هذه اللوحات والإكسسوارات نابع من حبي الشديد للتفاصيل طوال حياتي، كما أنني لطالما امتلكت هواية تجميع واقتناء الأشياء المتشابهة، فعندما كنت صغيرة كنت أقوم بتجميع العرائس نظرا لحبي الشديد لها، ومازلت أحرص حتى اليوم على اقتناء عرائس من كل بلد أقوم بزيارته، ومع مرور الوقت اتسع شغفي بتجميع أشياء ليمتد ليشمل أشياء أخرى تجاوزت حدود مجرد تجميع العرائس، وكلما نضج اهتمامي بشيء معين كنت أقوم بتجميعه، فعندما دخلت مجال الأزياء وتوغلت فيه بدأ يتزايد لديّ فهم قيمة الزي التراثي قبل وبعد إضافة الحلي له، فبالتأكيد فإن الحلي تعطي للأزياء التراثية تحديدا قيمة ووقارا ما كانت لتمتلكها إلا بفضل هذه الحلي المضافة لها، ولقد أبهرني هذا الفرق بشدة، ولقد كان هذا دافعي الرئيسي في تجمع هذه الحلي، ألا وهو أنه يليق بأزياء محددة أستعملها كثيرا.

وبشكل عام أود القول بأن اهتمامي بالفن عموما كان نابعا من اهتمامي بالأزياء، لأن تصميم الأزياء فن وكل الفنون منفتحة على بعضها البعض، كما أن كل الحضارات منفتحة كذلك، فعندما بدأت دراسة الأزياء والحلي، بدأت دراسة كيفية عمل بعض التصميمات في الأزياء التي تكون مستوحاة من اللوحات الفنية الشرقية.

** وأخيرا نود من الدكتورة هبة هجرس إسداء نصيحة لكل شخص من ذوي الإعاقة سوف يطلع على هذا الحوار.

* ما أراه مهمًا بالنسبة لأي شخص وليس فقط الأشخاص أصحاب الإعاقات هو أن تكون منظمًا وألا تدخر جهدا لتحصيل هدفك، ذلك أن نجاح أي شخص لا يأتي بالعشوائية، فبالنسبة لي فلقد دخلت مجال الإعاقة صدفة، ولكني لم أستمر به بالصدفة، وذلك لأني لو استمررت به صدفة لكنت خرجت منه بالصدفة أيضا، فأنت لا تُمنح مكانك بل تأخذه، وبالتالي إذا أردت أن تأخذ مكانك الذي تستحقة لابد لك أن تبذل جهدًا وافرًا يليق بذلك المكان وتلك المكانة.