محمود أسعد
ككل مصري فإن عشق كرة القدم يتوغل في عروقي كتوغل المغتصب الفرنسي في أحراش أفريقيا، فهذه اللعبة تمتلك من السحر والجمال ما لم تمتلكه الحسناوات في بلاد فارس والفاتنات في ريف ألمانيا.. ولو أن امرؤ القيس ظل حيا حتى يرى كرة القدم تُلعب لتغزّل فيها في أشعاره أكثر من تغزُّله في محبوبته فاطمة التي وصف سطوتها على قلبه وشدة تعلقه بها في معلقته الأشهر قائلا:
ويوم على ظهر الكثيب تعذرة** علي وألت حلفة لم تحللِ
أفاطم مهلا بعض هذا التدللِ** وإن كنت قد أزمعتِ صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي**وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وإن تك قد ساءتك مني خليقة**فسلي ثيابي عن ثيابك تنسلي
وما ذرفة عينيك إلا لتضربي** بسهميك في أعشار قلب مقتل
وكما أن حب الكرة في متناول الجميع، فإن ممارستها أيضا ليست حكرا على الأصحاء فحسب؛ فلقد مررت في حياتي بنماذج عدة من أصحاب الإعاقات الذين لم تردعهم إعاقاتهم عن ممارسة هذه اللعبة التي شغلت أفئدتهم قبل عقولهم، وكان من بين هؤلاء صديقي كريم الذي نسميه “بطيخة”، فكريم أحد الشباب الصغار الذين تعرفت عليهم في ملاعب كرة القدم، الذي بالرغم من كونه أصم وأبكم، إلا أنه لم يتوقف قط عن ممارسة لعبته المفضلة مستعينا بسماعتين في كلتا أذنيه مكنتاه من تحدي إعاقته والتواصل معنا..
كان ماهرا للغاية، يلعب في كل المراكز ويراوغ الجميع بسهولة وخفة ولياقة .. لم يكن يعجزه شيء في هذه اللعبة، فحتى عندما كان يلعب كحارس مرمى كان يقف كالجدار المنيع الذي يحول دون معانقة تسديدات مهاجمي الفرق الآخر شباك مرماه .. دائما ما سألت نفسي عندما كنت أشاهده وأتأمل مهاراته وهو يلعب، ماذا كان سيحدث إذا وجد هذا الفتى الرعاية الكافية التي تمكنه من ممارسة هذه اللعبة على المستوى الاحترافي؟! ألم يكن ليصبح أحد أمهر اللاعبين الصاعدين في مصر الآن؟ هل معنى أن يكون المرء من أولى الإعاقات أن يحرم من حقه الطبيعي في المساواة مع من هم دونه من الأصحاء؟ أم أنكم قتلتم حلمه ومن قبله موهبته وحكمتم عليه بالفشل الذريع لكونه مصابًا بإعاقة لم يكن له دخل فيها؟! لماذا في بلادنا لا تمنح الفرص لمن يستحقون..! لماذا تهدر حقوقهم ويتركون على قوارع الطرق حتى لا يجدوا مفرا من التسول والاستجداء؟!
في آخر مرة كنت فيها في الملعب مع كريم ناديته كثيرا ولكنه لم يجبني كعادته، فأصابتني الدهشة من تصرفه غير المعتاد فقررت التوجه إليه لاسأله عن السبب الذي يجعله يتجاهلني، ولكن أيضا لم يجب، وقفت أمامه لثوانٍ متأملا، ثم اكتشفت الحقيقة القاسية التي شطرت فؤادي لنصفين، لقد كانت أذناه فارغتين، إذًا لقد تلفت السماعتان اللتان كانتا طوقى النجاة الوحيدين اللذين يتشبث بهما ليهرب من هاوية إعاقته.. حينها نظرت إليه وأنا أقاوم أدمعي، وقلت في نفسي: ماذنب هذا المسكين حتى يمنعه سبب بسيط كهذا من العيش كما نفعل نحن، ما ذنبه حتى يترك هكذا دون وسيلة تزيل وحشة هذا الصمت الأبدي المقفر الذي يقبع فيه، ماذا لو كان هناك من يستطيع صيانة هذه السماعات لكريم حتى يعود مثلنا؟ وماذا لو وفرت الدولة له سماعة أخرى كما توفر للاعبي الكرة والمطربين والممثلين كل ما لذ وطاب؟! لماذا يُترك أمثال هؤلاء وحيدين بلا رحمة في مواجهة إعاقاتهم؟!
أما آن الأوان لكي نستجيب لأنين قلوبهم ونبسط لهم أذرعنا لنحتضنهم ونُسمعهم خفقات قلوبنا بعد أن رقت لهم ولأوجاعهم؟! أما آن الأوان لكي نتحرر من أغلال الأنانية المفرطة لنتصدى معهم لأمواج الإعاقة الجارفة؟!
إن الأمر الآن لم يعد مجرد محاولة لجعل المسئولين يتحركون لمساعدته على استغلال موهبته، بل تحول ليصبح نداء استغاثة حتى يستطيع كريم استكمال حياته بالشكل الطبيعي..! لماذا كل هذا؟!
إن أصحاب الإعاقات لا يطلبون الكثير منا، فقط هم يطلبون حقوقهم التي نصت عليها كل الكتب السماوية على مدار التاريخ، فإلى متى سنستمر في الجفاء نحوهم والقسوة عليهم..!